في تحقيق صحفي مثير نُشر في العدد الثالث والعشرين من مجلة “دير شبيغل” (Der Spiegel) الألمانية في يونيو 2024، سلط الصحفيان آني كاترين مولر (Ann-Katrin Müller) ومايك بومغارتنر (Maik Baumgärtner) الضوء على ظاهرة مقلقة آخذة في التنامي في ألمانيا، ألا وهي بروز ثقافة شبابية نازية جديدة تعتنق أفكارًا متطرفة وتنزع نحو العنف.
استند التحقيق، الذي حمل عنوان “الشباب الهتلري الجديد” (Neue Hitlerjugend)، إلى آلاف الرسائل المسربة من دردشات سرية على تطبيق “تريما” (Threema) تخص منظمة “الشباب الوطنيين” (Junge Nationalisten) أو JN اختصارًا، وهي الجناح الشبابي التابع لحزب “الحزب الوطني الديمقراطي” (Nationaldemokratische Partei Deutschlands) أو NPD، المشهور بنزعته النازية.
تكشف هذه المحادثات الداخلية عن الوجه الحقيقي البشع لهؤلاء الشباب المتطرفين، الذين يتباهون بممارسات مشينة مثل إحراق أعلام قوس قزح، وترديد أناشيد نازية، والسخرية من ذوي الإعاقة، والتخطيط لأعمال عنف، والدعوة الصريحة لتحطيم النصب التذكارية لضحايا النازية، مثل “حجارة التعثر1” (Stolpersteine).
كما توثق الرسائل الأنشطة التي ينخرط فيها هؤلاء النازيون الشباب، بدءًا من التدريبات الرياضية والعسكرية، ومرورًا بحملات توزيع الملصقات المعادية للمتحولين جنسيًا والأقليات، وصولًا إلى محاولات تجنيد طلاب المدارس عبر تنظيم نشاطات ترفيهية وحوارات على الإنترنت.
لكن الأكثر إثارة للقلق هو التحالفات التي يقيمها هؤلاء المتطرفون مع عناصر من “الشباب البديل” (Junge Alternative)، الجناح الشبابي لحزب “البديل من أجل ألمانيا” AfD، على الرغم من سياسة الأخير المعلنة بعدم التسامح مع عضوية النازيين الجدد. تفضح المحادثات وجود علاقات وثيقة بين الجناحين الشبابيين، تشمل المشاركة في تدريبات ومسيرات مشتركة.
ويسعى هؤلاء الشباب المتشددون أيضًا إلى الالتفاف على رقابة الإنترنت من خلال نشر صور دعائية خالية من شعارات المنظمة النازية، وتقديم نصائح حول تشفير الهواتف وحماية البيانات من الشرطة ومكتب حماية الدستور (Verfassungsschutz). كما يخططون لتغيير اسم حزب NPD إلى “الوطن” (Die Heimat) للتخلص من سمعته السيئة، وربما تسمية أنفسهم بـ “شباب الوطن” (Heimatjugend) في إشارة صريحة إلى منظمة “شباب هتلر” (Hitlerjugend) النازية السيئة الصيت.
وأشار التحقيق إلى دور رئيس JN، سيباستيان ويغلر (Sebastian Weigler)، الملقب بـ “وندلر” (Wendler)، في تأجيج هذه الأفكار المتطرفة. وعندما سألته “دير شبيغل” عن سبب عدم منعه لهذه الأنشطة غير القانونية، ادعى ويغلر أنه لا يتذكر تفاصيل الرسائل الفردية، وأكد كذبًا أن JN تنبذ العنف.
لكن الحقيقة تقول خلاف ذلك، فقد كشف التحقيق عن تورط أحد شباب JN في الاعتداء الأخير على عضو البرلمان الأوروبي ماتياس إيكه (Matthias Ecke)، مما يدل على أن العنف أصبح سمة مميزة لهذه الثقافة النازية الناشئة.
ومن الجدير بالذكر أن الشرطة الألمانية تواجه صعوبات في التحقيق مع هؤلاء المتطرفين بسبب التقنيات الأمنية المتقدمة على هواتفهم الذكية، والتي قد يستغرق اختراقها عقودًا. لكن تسريب هذه الدردشات السرية أتاح فرصة فريدة للاطلاع على الجانب المظلم لهذا الجيل الصاعد من النازيين الجدد.
وما يزيد الطين بلة هو استخدام هؤلاء الشباب للغة بذيئة ومصطلحات عنصرية في محادثاتهم. فهم يشيرون إلى السود بكلمة “نيغر” (N-Wort)، ويصفون المهاجرين بـ “الكاناكي” (Kanaken)، ويتحدثون عن “ذلك اليهودي الغبي” في إشارة إلى رئيس مكتب حماية الدستور في ولاية تورينغن، شتيفان كرامر (Stephan Kramer)، الذي كان في السابق الأمين العام للمجلس المركزي لليهود في ألمانيا.
ولا يتورع هؤلاء الشباب عن التعليق بسخرية وقسوة على صور لأشخاص من ذوي الإعاقة يدافعون عن حقوق الإنسان ضد النازيين. فأحدهم يصفهم بـ “المغفلين الحقيقيين”، بينما يقترح آخر “القتل الرحيم” لهم، وسط موجة من الضحك والتأييد من بقية الأعضاء.
كما تكشف المحادثات عن التحديات الداخلية التي تواجه هذه الجماعات النازية، مثل الأخطاء الإملائية المتكررة في منشوراتهم، مما يثير غضب بعض الأعضاء ويدفعهم للمطالبة بمراجعة النصوص قبل النشر لتجنب الإحراج. ويسخر البعض من قادة NPD البدينين، واصفين إياهم بـ “ما دون البشر”، بل ويعلقون بقسوة على وزن بعضهم البعض، مما يثير مشاجرات داخلية، قبل أن يعتذروا عن فظاظتهم بحجة أنهم يسعون لتشجيع بعضهم على اللياقة البدنية، مشيرين إلى أن “قدوتهم الأعظم سيتقلب في قبره” في إشارة إلى أدولف هتلر.
في النهاية، يقدم هذا التحقيق الاستقصائي المتميز من “دير شبيغل” صورة مقلقة عن تنامي التطرف اليميني في صفوف الشباب الألماني. فهؤلاء الشباب المتطرفون لا يكتفون بتبني الأفكار النازية النتنة فحسب، بل يعملون أيضًا على تحويلها إلى أفعال عنيفة على أرض الواقع. وهذا يتطلب تضافر الجهود المجتمعية لمواجهة هذا الفكر المتطرف، وحماية الأجيال القادمة من سمومه القاتلة. فالنازية الجديدة خطر داهم يهدد مستقبل ألمانيا، ولا بد من التصدي لها بكل حزم وقوة، قبل أن تستفحل وتتحول إلى كارثة تعصف بالبلاد كما حدث في الماضي الأسود.
- وهي لوحات نحاسية صغيرة مثبتة في الأرصفة تحمل أسماء ضحايا الهولوكوست وتخلد ذكراهم ↩︎